فصل: المظفر بن المنصور.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.المظفر بن المنصور.

ولما هلك المظفر قام بالأمر من بعده أخوه عبد الرحمن وتلقب بالناصر لدين الله وجرى على سنن أبيه وأخيه في حجر الخليفة هشام والاستبداد عليه والاستغلال بالملك دونه ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده فأجابه وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى وأهل الحل والعقد فكان يوما مشهودا وكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصه: هذا ما عهد هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة وعاهد الذي عليه من نفسه خاصة وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أمعن النظر وأطال الإستخارة وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة ونصب إليه من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن وخاف نزول القضاء بما لا يصرف وخشي أن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه وملجأ تنعطف إليه أن يلقى ربه تبارك وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها واعتبر عند ذلك من أحياء قريش وغيرها من يستحق أن يستند هذا الأمر إليه ويعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته بعد اطراح الهوى والتحري للحق والتزلف إلى الله عز وجل بما يرضيه وبعد أن قطع الأقاصي وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا يوليه عهده ويفوض إليه الخلافة بعده غيره لفضل نسبه وكرم خيمه وشرف مرتبته وعلو منصبه مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه وتفاوته المأمون العيب الناصح الحبيب أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر وفقه الله تعالى إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره ونظر في شأنه واعتبره فراه مسارعا في الخيرات سابقا إلى الجليات مستوليا علي الغايات جامعا للماثرات ومن كان المنصور أباه والمظفر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه ويحوي من خلال الخير ما حواه مع أن أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم ووعاه من مخزون الغيب رأى أن يكون ولي عهده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه» فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده الآثار ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته وفوض إليه الخلافة بعد وفاته طائعا راضيا مجتهدا وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه ولم يشترط فيه ثنيا ولا خيارا وأعطى علي الوفاء به في سره وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء الراشدين من آبائه وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول وأشهد علي ذلك الله والملائكة وكفى بالله شهيدا وأشهد من أوقع إسمه في هذا وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله تعالى وقيد له ما قلده وألزمه نفسه ما في الذمة وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهادتهم بخطوط أيديهم وتسمى بعدها بولي العهد ونقم أهل الدولة عليه ذلك فكان فيه حتفه وانقراض دولته ودولة قومه والله وارث الأرض ومن عليها.

.ثورة المهدي ومقتل عبد الرحمن المنصور وانقراض دولتهم.

ولما حصل عبد الرحمن المنصور على ولاية العهد ونقم ذلك الأمويون والقرشيون وغصوا بأمره واتفقوا علي تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية فاجتمعوا لشأنهم وتمشت من بعض إلى بعض رجالاتهم وأجمعوا أمرهم في غيبة من الحاجب الناصر ببلاد الجلالقة في غزاه من صوائف ووثبوا بصاحب الشرطة ففتكوا به بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وخلعوا هشاما المؤيد وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعياص الملك وأعقاب الخلفاء ولقبوه المهدي وطار الخبر إلى الحاجب بمكانه من الثغر فانفض جمعه وقفل إلى الحضرة مدلا بمكانه زعيما بنفسه حتى إذا قرب من الحضرة تسلل عنه الجند ووجوه البربر ولحقوا بقرطبة وبايعوا المهدي القائم بالأمر وأغروه بالناصر واعترضه منهم من تقبض عليه واحتز رأسه وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة وذهبت دولة العامريين.

.ثورة البربر وبيعة المستعين وفرار المهدي.

كان الجند من البرابرة وزناتة قد ظاهروا المنصور علي أمره وأصبحوا شيعة لبنيه من بعده ورؤساؤهم يومئذ زاوى بن مناد الصنهاجي وبنو ماكير ابن أخيه زيري ومحمد بن عبد الله البرزالي ونصيل بن حميد المكناسي الفازع أبوه عن العبيديين إلى الناصر وزيري بن غزانة المتيطي وأبو زيد بن دوناس اليفرني وعبد الرحمن بن عطاف اليفرني وأبو نوربن أبي قرة اليفرني وأبو الفتوح بن ناصر وحزرون بن محصن المغراوي وبكساس بن سيد الناس ومحمد بن ليلى المغراوي فيمن إليهم من عشائرهم فلحقوا بمحمد بن هشام لما رأوا من انتقاض أمر عبد الرحمن وسوء تدبيره وكانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين وتنسب إليهم تغلب المنصور وبنيه علي أمرهم فسخطتهم القلوب وخزرتهم العيون وتنفست بذلك صدور الغوغاء من أذيال الدولة ولفظت به ألسنة الدهماء من المدينة وأمر محمد بن هشام أن لا يركبوا ولا يتسلحوا وردوا في بعض الأيام من باب القصر وانتهب العامة يومئذ دورهم ودخل زاوى وابن أخيه حساسة وأبو الفتوح بن الناصر علي المهدي شاكين بما أصابهم فاعتذر إليهم وقتل من آذاهم من العامة في أمرهم وكان مع ذلك مظهرا لبغضهم مجاهرا بسوء الثناء عليهم وبلغهم أنه سره الفتك بهم فتمشت رجالاتهم وأسروا نجواهم واتفقوا علي بيعة هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله وفشا في الخاصة حديثهم فعوجلوا عن أمرهم ذلك وأغرى بهم السواد الأعظم فثاروا بهم وأزعجوهم عن المدينة وتقبض علي هشام وأخيه أبي بكر وأحضرا بين يدي المهدي فضرب أعناقهما ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر وزناتة وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتآمروا فبايعوه ولقبوه المستعين بالله ونهضوا به إلى ثغر طليطلة فاستجاش بابن أدفونش ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة وبرز إليهم المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة وكانت الدبرة عليهم واستلحم منهم ما يزيد علي عشرين ألفا وهلك من خيار الناس وأئمة المساجد وسدنتها ومؤذنيها عالم ودخل المستعين قرطبة خاتم المائة الرابعة ولحق ابن عبد الجبار بطليطلة.